متابعة/
ردّد المصريون على مدى عشرات السنين الحكم والأمثال الشعبية القديمة التي تربط بين الاستقلال في القرار السياسي وامتلاك القوت والخبز، ومن بين تلك الحكم "من يملك قوته يمتلك قراره"، "ومن يأكل من فأسه يكون قراره من رأسه".
ولكنهم طوال تلك العقود لم يشعروا في يوم من الأيام بخطورة على رغيف الخبز بفعل توريدات القمح التي لم تنقطع يوما ما، فحتى في حربي 1967 و1973 التي خاضتهما مصر ضد إسرائيل لم تنقطع إمدادات القمح من الخارج.
وفي ليلة وضحاها تغيرت الأوضاع وبات رغيف الخبز في مصر مهددا بفعل الحرب روسيا على أوكرانيا إذ تستورد مصر منهما 80% من وارداتها من القمح.
وبسبب الحرب وزيادة أسعار كل السلع والمحاصيل الغذائية ارتفع سعر الرغيف السياحي بنسب راوحت بين 20% إلى 50%، وأصبح رفع سعر "عيش الغلابة" ذي الخمسة قروش قاب قوسين أو أدنى.
وعادت قطاعات كبيرة لطرح سؤال: لماذا لا نزرع مساحات كافية من القمح تكفي حاجتنا؟ وبدأ الخبراء والمختصون يتحدثون عن حلول تقليدية وأخرى غير تقليدية "من خارج الصندوق" من أجل إيجاد حل لأزمة القمح في مصر.
هل البطاطس هي الحل؟
ومن بين الذين فكروا خارج الصندوق الدكتور محمد عبد الستار المليجي أستاذ علم أمراض النبات الذي كتب مقالا في موقع "للعلم" -هو النسخة العربية من موقع مجلة "Scientific american"، إحدى أهم الدوريات العلمية في العالم، وتمول الموقع الحكومة المصرية- أكد فيه أنه يمكن لمصر باعتبارها من أكبر الدول المستوردة للقمح أن تحل تلك الأزمة التي استفحلت عن طريق استخدام البطاطس في صناعة الخبز.
وأضاف المليجي في مقاله "القمح ليس المحصول الوحيد الذي يُصنع منه دقيق الخبز، بل يمكن خلطه بمحاصيل أخرى أو الاستغناء عنه تمامًا في صناعة الخبز، وهناك نسبة غير قليلة من البشر لديهم حساسية من مادة الغلوتين التي توجد في القمح والشعير، لذا فإنهم يستخدمون مصادر أخرى خالية من الغلوتين لصناعة الخبز".
ولفت إلى أنه من بين المحاصيل التي يصنع منها الخبز في العالم الأرز والبطاطس والموز والكاسافا، وغيرها من المحاصيل الأخرى.
وجدد المليجي تأكيده أن معظم شعوب العالم لا تعتمد على دقيق القمح كمصدر أساسي لصناعة الخبز كما في مصر، والعديد منها يستخدم خبز البطاطس الذي يُصنع بطرق متعددة وشهية ويمكن صناعته في المنزل بسهولة، على حد وصفه.
وتابع "يمكن أن نستخدم البطاطس في وجباتنا بديلا لنصف استهلاكنا من الخبز، على أقل تقدير"، ولفت إلى أن مصر أنفقت في عام 2019 مبلغ 4.67 مليارات دولار، أي ما يقارب 73 مليار جنيه على استيراد القمح لتصبح أكبر مستورد للقمح في العالم.
وأكد أن متوسط سعر الطن من القمح المستورد في عام 2021 بلغ 330 دولارا للطن، في حين تشتريه الدولة من الفلاح المصري بما يعادل 364 دولارا للطن، ولذلك تكون تكلفة الاستيراد أقل من تكلفة الإنتاج المحلي.
ووفقا لمقال المليجي، فإن التركيب الغذائي لـ"حبة" بطاطس وزنها 150 غراما يفوق ما يوفره رغيف خبز بلدي بالوزن نفسه من الكربوهيدرات والفيتامينات والمعادن.
تجربة مصرية
وإذا كان الدكتور محمد عبد الستار المليجي قد دعا في مقاله إلى صناعة الخبز من البطاطس من أجل إنقاذ مصر من أزمة القمح العالمية، فإن الإعلام المحلي قد تحدث عن تجربة مصرية سابقة في صناعة الخبز من البطاطس.
ونشر موقع اليوم السابع تجربة موثقة بالفيديو لصاحب أحد المخابز المدعمة بمحافظة الوادي الجديد (تبعد عن العاصمة المصرية القاهرة نحو 730 كم) في إنتاج أول رغيف خبز مصنوع من عجينة البطاطس، وهي التجربة التي تبحث المحافظة تعميمها على مستوى جميع المخابز المدعمة بالمحافظة لدعم وتشجيع الأفكار غير التقليدية التي تحقق توفيرا في الإنتاج وجودة في المنتج، ووافق محافظ الوادي الجديد على دعم الفكرة بتخصيص مساحة من الأرض لزراعة البطاطس.
وذكرت الصحيفة أن هناك مجموعة خطوات قام بها المواطن صاحب تجربة صناعة الخبر من البطاطا لكي ينتج رغيف خبز نصفه من دقيق القمح ونصفه الآخر من البطاطا، ومن بين تلك الخطوات سلق كميات من البطاطس البيضاء وتجهيزها بعد تصفيتها من المياه وعجنها بنسبة متساوية مع دقيق الخبز وتركها لتختمر، ثم تقطيعها لتصبح أقراصا جاهزة للخبز في الفرن على مستوى معين من درجة الحرارة من أجل إنتاج رغيف خبر يميل لونه إلى الأصفر وبمذاق حسن الطعم وله قيمة غذائية عالية .
البطاطس تتفوق على القمح
وعن أفضلية البطاطس على القمح في صناعة رغيف الخبز، كشف الدكتور عزت محمد عابدين، رئيس البحوث المتفرغ بقسم الخبز والعجائن بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، عن قيامه بسلسلة أبحاث على مدار 10 سنوات حصل بها على براءة اختراع مسجلة لدى أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بمصر عن صناعة رغيف خبز من مكونات مختلفة كبدائل للقمح، وقال عابدين لموقع بوابة الأهرام الحكومية إن فكرته تقوم على صناعة رغيف خبز يتكون من 5% دقيق أرز و10% دقيق شعير ويضاف إليها 35% من دقيق البطاطا كحد أدنى والباقي (45%) من القمح.
وأكد أن تلك المكونات لن تؤثر في خواص الرغيف الطبيعية ومحتواه الغذائي، بل ستجعله أفضل من جميع الجوانب، على حد قوله. ولفت عابدين إلى أن مصر تنتج 7 ملايين طن قمح وتستهلك 17 مليونا.
وأكد الباحث أن البطاطس تتفوق على القمح في أشياء كثيرة منها أن إنتاجية فدان البطاطس تراوح بين 15 إلى 17 طنا للفدان في حين أن إنتاجية فدان القمح لا تزيد بأي حال من الأحوال على 3 أطنان وتستغرق زراعته 6 أشهر، أما محصول البطاطس فيستغرق 3 أشهر فقط.
وعن عيوبها، قال عابدين إن أهم عيوب البطاطس عدم قابليتها للتخزين أكثر من 3 أشهر كما أنها لا تخزن في الثلاجات وبديلها البطاطس الصغيرة التي تنتج بشكل ثانوي مع البطاطس ونبات الكاسافا الشبيه بالبطاطا لكن جذوره عميقة في التربة، وينتج الفدان الواحد 30 طنا منه وتنتشر زراعته في شمال سيناء، ويمكن التوسع في زراعته في الأراضي الجديدة والمستصلحة.
ونوّه عابدين إلى أن الرغيف المنتج بخليط القمح والبطاطس صلاحيته تصل إلى 4 أيام، ولا يصاب بعفن الخبز نظرا لقوة احتفاظ البطاطس بالماء كما أن مذاقه وملمسه جيدان، وأكد أنهم أنتجوا 50 ألف رغيف تجريبي وأن كل من تذوق هذا الخبز استحسن جودته ومذاقه.
لماذا لا تتوسع مصر في زراعة القمح؟
من بين أكثر الأسئلة التي تتردد الآن في مصر هو السؤال القديم والمستمر منذ عقود: لماذا لا تتوسع مصر في زراعة القمح لتحقق الاكتفاء الذاتي؟
الدكتور محمد عبد الستار المليجي أكد في مقالته بموقع "للعلم" أن التفكير في إنتاج القمح اللازم لمصر في الأرض الصحراوية مجرد حلم لا يمكن تحقيقه، وأرجع ذلك إلى ندرة الماء والتربة الصالحة للزراعة وارتفاع تكاليف الإنتاج التي تقف حائلا دون التوسع في زراعة المحاصيل الحقلية مثل القمح في الصحراء.
وأضاف أنه في ضوء تجربته الشخصية مع زراعة القمح في المملكة العربية السعودية على مدى أكثر من 30 عاما، لا يمكن الاعتماد على المياه الجوفية في الزراعة التقليدية؛ لأسباب عديدة، أهمها ارتفاع التكلفة وانتشار الآفات بسرعة وتملُّح التربة بحيث تصبح غير قابلة للزراعة بعد 10أعوام إلى 15 عاما.
وذلك ما ذهب إليه رئيس مركز بحوث الصحراء الأسبق الدكتور إسماعيل عبد الجليل الذي أكد، في لقائه مع برنامج "بدون حظر" المذاع على قناة صدى البلد، أن مقولة مصر سلة غذاء العالم تحتوي على بعض المغالطات، لأن هذه المقولة أطلقت في وقت كانت فيه البلاد ممطرة، لكن كمية الأمطار التي تسقط في الأراضي المصرية الآن متواضعة مقارنة بالدول الأخرى، ولا يمكن التنبؤ بموعد سقوط الأمطار وتنسيقها مع إنتاج القمح.
وطالب عبد الجليل المواطنين بالتوجه إلى المحاصيل البديلة للقمح في صناعة الخبز، ومن بينها محصول الكينوا الذي يوفر 50% من احتياجات القمح من الماء.
المصدر/ الجزيرة